الاعتكاف والتاليف :-
لم يستطعِ ابن خلدون البقاء في الأندلس فقد ردّه ملكً غرناطة إلى أفريقيا فور وصوله، وهنا نزل في مرسى هنين حائراً، ورغم علم أبي حمو صاحب تلمسان به إلاّ أنّه تجاهله وتركه شريداً لمَا خاطبه، إلى أن توّسط له محمد بن عريف أحد وجهاء بني عريف، فأذن أبو حمو له بالقدوم إلى تلمسان عام 776هـ الموافقة سنة 1374م. كان ابن خلدون يرغب بالانقطاع عن السياسة والعكوف على الدرس لكن أبا حمو طلب منه مرّةً أُخرى التواصل مع القبائل واستمالتها فتظاهر بالقبول مُرغماً. على أن عزمه على الاعتزال غلب مهمته فغادر تلمسان ونزل عند بني عريف فأكرموه وأحسنوا وفادته وأنزلوه مع أسرته بقلعة سلامة(1) وهناك اعتكف أربعة أعوام وشرع بكتابة مؤلفه المُسمى العبر وديوان المُبتدأ والخبر في أيام العَرب والعَجم والبَربر وَمَن عاصَرَهُم من ذَوي السُلطان الأكبر وكان حينها في عامه الخامس والأربعين
*نتهى ابن خلدون من كتايه مقدمته (وهي في الأصل مقدمة تاريخه آنف الذكر) منتصفَ سنة 779هـ الموافقة سنة 1377م واستغرق فيها خمسة أشهرٍ، ووصف عمله: «وأكلمت المقدمة على هذا النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتّى امتحضت زبدتها، وتألفت نتائجها». لم يكن ابن خلدون يقصد التأريخ للخليقة جمعاء، بل هدف لكتابة تاريخ العرب والبربر في المغرب: «وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحاً أو مندرجاً في أخباره وتلويحاً، لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه دون ما سواه من الأقطار لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وإن الأخبار المتناقلة لا توفي كُنْه ما أريد منه»
*ولمّا عزم ابن خلدون على كتابة مؤلفه رأى أنه تنقصه المراجع الضرورية فعزم على الارتحال إلى بلده تونس حيث يستطيع الاستعانة بمواردها الوافرة من العلم، حينها كان السلطان أبو العباس قد استعاد تونس وكان ناقماً على ابن خلدون لما حدث بينهما قبل حوالي عشر سنوات، فأرسل له الأخير يستأذنه بالعودة فقبل السلطان وارتحل ابن خلدون في رجب سنة 780هـ الموافقة 1378م، ومرّ على قسنطينة فاستراح بها في ضيافة الأمير إبراهيم ابن السلطان أبي العباس. ولقيَ السلطان وهو على رأس جيشه لإخماد تمرد بعض النواحي فأرسله إلى تونسَ وأكرمه وأمر بتأمين كافة وسائل الراحة له، وانكبّ ابن خلدونٍ على الدرس حتّى عاد السلطان من حروبه، فقربّه من مجلسه وطلب منه إنجاز مؤلفه. ويتمّ ابن خلدون كتابه، ويرفع النسخة الأولى إلى السلطان أبي العباس سنة 784هـ الموافقة سنة 1382م. ويبتدئها بأبيات مديحٍ منها:
*طلب السلطان أبو العباس من ابن خلدون الخروج معه في الجيش للقضاء على بعض الخوارج عليه سنّة 783هـ، فقبل ابن خلدون مجبراً فقد عاف السياسة وما عاد يرغب بمهماتٍ خطرةٍ كهذه، ولمّا حققتِ الحملّة مبتغاها استأذن السلطانَ بالعودة وذهب إلى قريةٍ بجوار تونس وبقي بها لحين عودةِ السلطان ظافراً. لم تمضِ إلاّ أشهر حتّى أقبل السلطان بجيشه على الخوارج مجدداً فخشي ابن خلدون أن يُطلب لمرافقة السلطان، فقرر مغادرة تونس وعندها واتته فكرة الحج يتوّسل بها السلطانَ إذن المغادرة، فلمّا أذن له قصد المرسى بغية التوجه شرقاً في حفلِ وداعٍ من الأصدقاء والتلاميذ، وركب البحر منتصف شعبان 784هـ 1382م وكانت هجرته الأبدية عن المغرب ومسقط رأسه.