منهجه التاريخي :-
نظر ابن خلدون إلى الأحداث التي جرت في تاريخ الدوّل بتأملٍ شديدٍ فاستبصر ظواهرَ اجتماعيةً دائمة الحدوث غير مرتبطةٍ بالوقت، وهذه الظواهر تُمثل حياة المجتمع، وتربط الماضي بالمستقبل فالحوادث السالفة مُشابهة للحوادث التي لفتت انتباهه في عصره، وعليه اكتشف هذه الظواهر. وبلغت دراسته للتاريخ أن تحوّلت إلى إيمانٍ بالتاريخ فرأى وجوب وجودِ منهجٍ صحيحٍ وواضحٍ للتحقيق قي الحوادث التاريخية والنظم الاجتماعية.
وللوصول إلى القراءة الصحيحة للتاريخ بوصفه علماً على المؤرخين أن يتلافوا الوقوع في ثلاثة أخطاءٍ رئيسيةٍ؛ أولها التحزُب؛ فإذا ما روّي التاريخ وفق وجهة نظر بعض المُتحزبين لمنهجٍ إسلاميٍّ مُعينٍ لحصلت الدوّلة الأمويّة على أشنع الأوصاف دون أيّ صفةٍ حميدةٍ، ومثلها ظاهرة التحزُب عند المؤرخين المُبالغين في تملقِ الأقوياء، وآخرين يؤيدون ملكاً بشكلٍ مُفرطٍ دون النظر في مساوئه أو بصرف النظر عنها. أمّا الخطأ الثاني فهو قبول المؤرخ لكلِّ ما روّي من قبْله فيأخذ المعلومات دونما فحصٍ دقيقٍ، والحلّ الأنسب لتلافي هذا الخطأ يكون في التمحيص مع كثيرٍ من العنايةِ والتأمل، وهنا يجب الاعتماد على اكتشافات المُسلمين في علم الرجال و«الجرح والتعديل» التي استخدمها مؤرخو السنة النبوية فحققوا في كل الأحاديث، وأرجعوا كلّ معنىً إلى أصله حتّى صارت الأحاديث أشبه بالمعاجم يعود المرءُ إليها لاكتساب معلومةٍ أو نصيحةٍ، وكذا يجب أن يكون التاريخ فيجب التحقق من كلِّ ما ورد فيه حتّى يكون معجماً للمُريدين؛ ويجب الإنتباه لعددِ مؤرخي الحادثة الواحدة فروايةُ خمسةِ مؤرخين أقرب للتصديق من روايةِ مؤرخٍ واحد. أمّا الخطأ الثالث وهو ما أعطاه ابن خلدون عظيم الأهمية فهو الجهل بطبيعة الأحوال في العمران فالمؤرخُ محكومٌ بفهم طبائع المجتمع ومطابقتها مع ما يتفقُ معها من أحوال العمران، فإن عجز عن ذلك خسر امتياز القدرةِ على تمحيص المعلومات وتدقيقها.
ويُعلق ابن خلدون على هذه الخطايا الثلاث إلاّ أنّه يُعطي للخطيّة الثالثة أهميةً عُظمى، فيرى أن المسائل التاريخية لا يُمكن إخضاعها للجرح والتعديل إلاّ بعد مطابقتها مع طبائع العمران، فمن العبث القول بصحّةِ روايةٍ تاريخيةٍ ولو تكررّت على لسان أكثرَ من مؤرخٍ إذا كانت لا تتفق مع الأحوال في زمانها، أي إذا كانتِ الروايّة تناقض الزمان والمكان والظروف التي تعرضت لها الظاهرة المؤرَخّة. يضرب ابن خلدون -مثالاً على ذلك- برحلة ملك الهند يوم خرج للسفر وقبلها أحصى عدد سكان مملكته من نساءٍ ورجالٍ وأولاد وأعطاهم رزق ستةِ أشهرٍ عند عودته، فلمّا عاد اجتمع أهل الهند وغطوا الأرض كلها وقُذفت عليهم الأموال بالمنجينيقات، فيقول ابن خلدون إنّ الناس استفاضت في تكذيب هذه الواقعة لأنّها لا تتفق مع أحوال العمران «فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمناً على نفسه ومميّزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه».