أما عبد الله بن القاسم كاتب العباس بن أحمد بن طولون؛ فقال: بعث إلى أحمد بن طولون ذات مرة بعد أن مضى من الليل نصفه، فوافيته وأنا منه خائف مذعور، ودخل الحاجب بين يدي وأنا في أثره حتى أدخلني إلى بيت مظلم، فقال لي: سلّم على الأمير، فسلّمت، فقال لي ابن طولون من داخل البيت وهو في الظلام: لأي شيء يصلح هذا البيت؟ قـلت: لـلفـكر. قال: ولـم؟ قلت: لأنّه ليس فيه شيء يشغل الطرف بالنظر فيه. قال: أحسنت! امض إلى ابني العباس، فقل له: يقول لك الأمير اغد علي، وامنعه من أن يأكل شيئا من الطعام إلى أن يجيئني فيأكل معي. فقلت: السمع والطاعة. وانصرفت، وفعلت ما أمرني به، ومنعته من أن يأكل شيئا، وكان العباس قليل الصبر على الجوع، فرام أن يأكل شيئا يسيرا قبل ذهابه إلى أبيه، فـمنعته، فركب إليه، وجلس بين يديه، وأطال ابن طولون عمدا، حتى علم أن العباس قد اشتد جوعه وأحضرت مائدة ليس عليها إلّا البوارد من البقول المطبوخة، فانهمك العباس في أكلها؛ لشدة جوعه، حتى شبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقف عن الانبساط في الأكل، فلّما علم بأنّه قد امتلأ من ذلك الطعام، أمرهم بنقل المائدة وأحضر كل لون طيّب من الدجاج والبط والجدي والخروف فانبسط أبوه في جميع ذلك فأكل، وأقبل يضع بين يدي ابنه منه، فلا يمكنه الأكل لشبعه، قال له أبوه: إنني أردت تأديبك في يومك هذا بما امتحنتك به، لا تلق بهمّتك على صغار الأمور بأن تسهل على نفسك تناول يسيرها فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشغل بما يقل قدره فلا يكون فيك فضل لما يعظم قدره