جزع الباب العالي لسقوط عكا ودمشق وسيطرة المصريين على جنوب الشام، وخشي السلطان أن يتزعزع مركزه أمام انتصاراتهم، فحشد جيشًا آخر بقيادة السرعسكر حسين باشا ودفعه لوقف الجيش المصري، وإجبار المصريين على الانسحاب من بلاد الشام، وأصدر في الوقت نفسه فرمانًا أعلن فيه خيانة محمد علي باشا وابنه إبراهيم للسلطة الشرعيّة. اصطدم إبراهيم باشا بالجيش العثماني الجديد في معركة حمص وتغلّب عليه في 29 يونيو/حزيران سنة 1832م، الموافق 10 صفر سنة 1248هـ، وسيطر على حماة ودخل إثر ذلك مدينة حلب، وتأهب لاستئناف الزحف باتجاه الشمال. انسحب حسين باشا شمالاً، بعد خسارته، وتمركز في ممر بيلان وهو أحد الممرات الفاصلة بين بلاد الشام والأناضول، فلحقه إبراهيم باشا واصطدم به وتغلّب عليه، وطارد من بقي من جيشه حتى اضطرهم إلى مغادرة المنطقة عن طريق ميناء الإسكندرونة وسيطر على الممر، كما احتل ميناء إياس، شمالي الإسكندرونة، ودخل ولاية أضنة وطرسوس.
وشجعت هزيمة العثمانيين إبراهيم باشا على مواصلة طريقه، فتقدم في داخل بلاد الأناضول حتى بلغ مدينة قونية، وكان العثمانيون قد تجمعوا ليدافعوا عن قلب السلطنة، ودارت فيها معركة قونية في 20 ديسمبر/كانون الأول سنة 1832م، الموافق 27 رجب سنة 1248هـ، ونجح القائد المصري في التغلّب عليهم وأسر قائدهم الصدر الأعظم محمد رشيد باشا. وبهذه الغلبة انفتحت الطريق أمامه إلى الآستانة، حتى خُيّل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية السلطنة العثمانية أصبحت قريبة. عقب هزيمة قونية ساد القلق عاصمة الخلافة، وارتعدت فرائص السلطان الذي خشي من تقدم إبراهيم باشا نحو العاصمة، فاستنجد بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر المداهم، فلم ينجده إلا روسيا،(7) إذ كانت بريطانيا منهمكة في شؤونها الداخلية وبالمسألة البلجيكية،(8) وكانت فرنسا تؤيد محمد علي وتتعاون معه، وقد كان في جيشه عدد من القادة الفرنسيين، ووقفت كل من النمسا وبروسيا على الحياد. أرسلت روسيا عام 1833 أسطولاً بحريًا إلى الآستانة للدفاع عنها، ولم تكد بريطانيا وفرنسا تطلعان على وجود السفن الروسية في مياه الآستانة حتى هالهما الأمر، وشعرتا بالخطر الروسي عليهما، وخشيتا أن تستغل روسيا تداعي الدولة العثمانية لتقوّي مركزها في الممرات البحرية، فسارعتا إلى عرض مساعدتهما على السلطان فيما إذا تخلّى عن المساعدة الروسية. ولكن الروس رفضوا إجلاء سفنهم إلا بعد أن ينسحب المصريون من الأناضول. عندئذ نشط ممثلو بريطانيا وفرنسا في التوسط بين السلطان ومحمد علي، حتى تم تبادل الرسائل بينهما. واستخدمت فرنسا علاقاتها الوديّة مع مصر لإقناع محمد علي باشا بتسوية خلافه مع السلطان، وأن لا يتشدد في طلباته، وأن يكتفي من فتوحه بسناجق صيدا وطرابلس والقدس ونابلس. رفض محمد علي باشا وجهة النظر الفرنسية، وأصرّ على ضم بلاد الشام وولاية أضنة، وجعل جبال طوروس الحد الفاصل بين الدولة العثمانية وممتلكاته، وأمر ابنه بالتقدم في فتوحه بهدف الضغط على السلطان.
وبذلت فرنسا جهودًا مضنية للتوفيق بين وجهتي النظر، العثمانية والمصرية، وهدّدت، في إحدى مراحل المفاوضات، بقطع العلاقة مع مصر. وأخيرًا توصل الجانبان إلى توقيع اتفاقية كوتاهيه، في 4 مايو/أيار سنة 1833م، الموافق فيه 14 ذي الحجة سنة 1248هـ، تنازل الباب العالي بموجبها عن كامل بلاد الشام، وأقرّ لمحمد علي باشا بولاية مصر وكريت وكامل سوريا الطبيعية (بما يشمل لبنان وفلسطين وأضنة)، وبولاية ابنه إبراهيم على جدّة. وقد تعهد محمد علي لقاء ذلك، بأن يؤدي للسلطان كل عام الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل. وهكذا جلا إبراهيم باشا عن الأناضول، وانتهت المرحلة الأولى لحروب الشام، وبدا أن الأزمة قد انتهت أيضًا