7JEWMSJD2M

إستكشف المشاركات

استكشف المحتوى الجذاب ووجهات النظر المتنوعة على صفحة Discover الخاصة بنا. اكتشف أفكارًا جديدة وشارك في محادثات هادفة

كان الإمام مالك يتحرز أن يخطئ في إفتائه، وكان يبتدئ إجابته بقوله: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»، وكان يكثر من «لا أدري»، وكان يعقب كثيراً فتواه بقوله: «إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين». ولقد قال عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل مالكاً عن مسألة، وذكر أنه أُرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب، فقال له: «أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها»، فقال: «ومن يعلمها؟»، قال: «الذي علمه الله». وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». كما كان الإمام مالك ينهى عن الجدال في الدين ويقول: «المراء والجدال في الدين يذهب بنور العلم من قلب العبد». ورأى قوماً يتجادلون عنده فقام ونفض رداءه وقال: «إنما أنتم في حرب».

ويصف مطرفٌ تلميذ الإمام مالك حاله عندما انتقل درسه إلى بيته فيقول: كان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: «يقول لكم الشيخ: أتريدون الحديث أم المسائل؟»، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم: «اجلسوا»، ودخل مغتسله، فاغتسل وتطيب ولبس ثياباً جدداً، ولبس ساجة وتعمم، وتُلقى له المنصة، فيخرج إليهم قد لبس وتطيب، وعليه الخشوع، ويوضع عودٌ فلا يزال يتبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله ﷺ. وقال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله ﷺ، فلدغته عقرب بست عشرة مرة ومالك يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله ﷺ، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت: «يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجباً؟»، فقال: «نعم، إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله ﷺ».

وقد التزم الإمامُ مالك في درسه الوقارَ والسكينةَ، والابتعادَ عن لغو القول وما لا يَحسن بمثله، وكان يرى ذلك لازماً لطالب العلم، يُروى أنه نصح بعض أولاد أخيه فقال: «تعلّم لذلك العلم الذي علمته السكينة والحلم والوقار»، وكان يقول: «حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، أن يكون متبعاً لآثار من مضى، وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح، وبخاصة إذا ذكروا العلم»، وكان يقول: «من آداب العالم ألا يضحك إلا تبسماً». وقد قال الواقدي في مجلس درسه: «كان مجلسه مجلس وقار وعلم، وكان رجلاً مهيباً نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت، وإذا سُئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا».

كان درس الإمام مالك أول الأمر في المسجد، ثم صار درسُه في بيته بسبب مرضه الذي لم يكن يعلنه، فقد كان مصاباً بسلس البول، ولم يخبر بذلك إلا يوم وفاته، قال الإمام مالك: «لولا أني في آخر يوم ما أخبرتكم، مرضي سلس بول، كرهت أن آتي مسجد رسول الله بغير وضوء، وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي».

جلس مالك في المسجد النبوي يُفتي ويروي الحديث النبوي لطلابه، وكان مجلسُه في المسجد النبوي في المكان الذي كان عمر بن الخطاب يجلس فيه للشورى والحكم والقضاء، وكان مالك باختياره ذلك المجلس يتأثر عمر بن الخطاب في جلوسه كما تأثره في فتاويه وأقضيته، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش النبي محمد إذا اعتكف، وجاء في طبقات ابن سعد: «كان مجلس مالك في مسجد رسول الله ﷺ تجاه خوخة عمر بين القبر والمنبر». وكذلك فعل مالك في مسكنه، فقد كان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، ليقتفي بذلك أثر عبد الله بن مسعود.

بعد أن اكتملت دراسة مالك للآثار والفُتيا، اتخذ له مجلساً في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، ولقد قال في هذا المقام وفي بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس والإفتاء: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاوِر فيه أهلَ الصلاح والفضل والجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك». وقد كان جلوس مالك للإفتاء في المسجد النبوي بعد أن اكتمل عقله ونضج فكره، وفي حياة بعض شيوخه الذين عاشوا بعد أن نضج واكتمل، ولم تُبين المصادر السنَّ التي جلس فيها مالك للإفتاء بالتعيين الذي لا شك فيه.

عَمَله ومصدر رزقه
لم تَذكر كتبُ المناقب والأخبار مواردَ رزق الإمام مالك موضّحةً مبيّنةً، ولكن جاءت أخبارٌ منثورةٌ تكشف عن موارد رزقه، والراجح أن مالكاً كان يعمل بالتجارة، فقد قال تلميذه ابن القاسم: «إنه كان لمالك أربعمئة دينار يتجر بها، فمنها كان قوام عيشه». كما كان الإمام مالك يَقبل هدايا الخلفاء، ولا يعتريه شك في حل أخذها، وإن كان يتعفف عن الأخذ ممن دونهم، فقد سُئل عن الأخذ من السلاطين فقال: «أما الخلفاء فلا شك، يعني أنه لا بأس به، وأما من دونهم فإن فيه شيئاً»، ويُروى أن الخليفة هارون الرشيد أجاره بثلاثة آلاف دينار، فقيل له: «يا أبا عبد الله، ثلاثة آلاف تأخذها من أمير المؤمنين!»، فقال: «لو كان إمامَ عدل فأنصف أهل المروءة لم أر به بأساً»، فهو كان يقبلها لأنها برأيه من إنصاف أهل المروءة.

ولقد لازم مالكاً منذ صباه الاحترامُ التامُّ للأحاديث النبوية، فكان لا يتلقاها إلا وهو في حال من الاستقرار والهدوء توقيراً لها وحرصاً على ضبطها، ولذلك ما كان يتلقاها واقفاً، ولا يتلقاها في حال ضيق أو اضطراب، حتى لا يفوته شيء منها. كما أن مالكاً لم يكن يدخر مالاً في سبيل طلب العلم، حتى قال ابن القاسم: «أفضى بمالك طلبُ العلم إلى أن نَقض سقفَ بيته فباع خشبَه، ثم مالت عليه الدنيا من بعد».

كما أخذ الإمام مالك عن ابن شهاب الزهري، قال مالك: قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة، فحدثنا نيفاً وأربعين حديثاً، ثم أتيناه في الغد، فقال: «انظروا كتاباً حتى أحدثكم، أرأيتم ما حدثتكم به أمس؟»، قال له ربيعة: «ههنا من يرد عليك ما حدثت به أمس»، قال: «ومن هو؟»، قال: «ابن أبي عامر»، قال: «هات»، فحدثته بأربعين حديثاً منها، فقال الزهري: «ما كنت أرى أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري».

لقد كانت المدينة المنورة في عصر مالك مهداً للعلم، إذ كان بها عدد من التابعين، وقد لازم مالك ابن هرمز ملازمة لم يخلطه فيها بغيره، ثم اتجه إلى الأخذ من غيره من العلماء مع مجالسة شيخه الأول، فوجد في نافع مولى ابن عمر بغيته، فجالسه مع مجالسة ابن هرمز وأخذ عنه علماً كثيراً، قال الإمام مالك: «كنت آتي نافعاً نصف النهار، وما تظلني الشجرة من الشمس أتحيَّن خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة، كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: «كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟»، فيجيبني، ثم أحبس عنه، وكان فيه حدة».