حياته في مصر :-
*وصل ابن خلدون للاسكندرية بعد رحلة بحرٍ استمرت لنحو أربعين يوماً، وكان وصوّله في عيد الفطر سنة 784هـ/1382م؛ وأقام بالإسكندريةِ نحو شهرٍ لتهيئة ظروف الحج لكن لم يستطع لذلك سبيلا فقصد القاهرة آملاً في الاستقرار والهدوء بعد أن بلغ من العمر اثنين وخمسين عاماً، وكانت القاهرة يومئذٍ موئل الفكر الإسلامي وحامية العلوم والآداب؛ ووصلها في ذي القعدة وأبهرته بضخامتها وجمالها «فرأيت حاضر الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأممّ، ودرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدراس والكواكب بآفاقه».
*كان صيت ابن خلدون سابقاً له في الوصول للقاهرة وأُعجب أهل العلم بمقدمته وطريقة بنائِها، فما إن حلّ بها حتّى أقبل عليه أهل العلم وطلابه يرتجون منه الفائدة، ويقول ابن خلدون: «وانثال علي طلبة العلم يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها». وقد نقل أبو المحاسن ابن تغري عمل ابن خلدون في كتاب المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي قائلاً: «واستوطن القاهرة وتصدّر للإقراء بالجامع الأزهر مدّة، واشتغل وأفاد». كان ابن خلدون يُدّرس الفقه المالكي ويستفيض بتفصيل العُمران البشري وكيف تُبنى الدوّلُ والممالك، وكان متحدثاً بارعاً يخلب لباب السامعين من شدّةِ جمال ملافظه واتزان كلامه وكذا حدثَ عنه من التحقوا بدرسه مثل تقي الدين المقريزي ومثله الحافظ ابن حجر الذي انتفع بعلمه فوصفه: «وكان لَسِناً، فصيحاً، حسن الترسّل وسط النظم؛ مع معرفةٍ تامةٍ بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة»، وهكذا ثبّت ابن خلدون نفسه في المجتمع القاهري وأثار إعجابه، وتمكّن من الاتصال بالسلطان الظاهر برقوق الذي كان وُليَ على مصرَ قبل وصوله بأيامٍ قلائل.
*أكرم السلطان ابنَ خلدونٍ وأحسن مثواه: «فأبر مقامي، وآنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم». بذلك كسب ابن خلدون ما تمناه من الاستقرار والعيش في ظلّ حاكمٍ يؤمن له مصدر رزقه،
*أواخر جمادى الآخرة سنة 786هـ 1384م عُين ابن خلدون قاضياً للمالكية؛ وفي هذا إشارة على تبوؤه مكانةً عاليةً فهذا المنصب من أرفع أربعِ مناصبَ للقضاء في الدوّلة، وبه أيضاً ابتدأ الاستقرار -الذي نشده ابن خلدون من وصوله لمصر- بالاضمحلال وكثرت الخلافات حوله، فخُلع من المنصب أكثر من مرّةٍ ووصف بسخريةٍ، «وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذٍ في نزعةٍ من النزعات الملوكية، فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه، فتفاديت من ذلك، وأبى إلاّ مُضاءَه». بشكلٍ عام فإن ولاية ابن خلدون للقضاء لم تكن حدثاً عادياً؛ فمنصب القضاء وحتّى مناصب التدريس كانت غاية الفقهاء والعلماء المحليين،
*عُزل ابن خلدون من منصب قاضي المالكية في السابع من جمادى الأولى سنة 787هـ/1358م وانصرف للتدريس والعلم بالمدرسة القمحية ثم ماليث أن عُيّن مُدرساً للفقه المالكي في المدرسية الجديدة
*وبقي كذلك إلى أوان موسم الحج عام 789هـ، فأذن له السلطان بالسفر، ودخل مكة في الثاني من ذي الحجة وأدى الفريضة. وعاد إلى القاهرة قاصداً السلطان، فغمره بكرمه وعينه للتدريس بمدرسة صرغمتش(3) بدل المدرسة القديمة، وقد حدثنا ابن خلدون عن درسه الأول إذ تكلم عن الإمام مالك وحياته ونشأته وكيفية انتشار مذهبه: «وانفض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيونُ، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوبُ، وأخلص النجا في ذلك الخاصة والجمهور».
*بعدها عمل ابن خلدون في مشيخة نظارة خانقاه بيبرس(4) وتوسعت موارده وزاد نفوذه؛ لكن الاستقرار لم يدم في مصر فمالبثت الفتن أن بدأت وتحركت الجيوش وتبدلّت الممّالك، وقد ذكر ابن خلدون هذه الفتن وشرح أسبابها بعد أن كان شاهداً عليها فتحدث عن نشوء الدوّل وانهيارها، وقد أثرت هذه الأحداث عليه فخُلع من منصبه، ثمّ أعيد إليه بعد عودة الظاهر برقوق للعرش