7JEWMSJD2M

إستكشف المشاركات

استكشف المحتوى الجذاب ووجهات النظر المتنوعة على صفحة Discover الخاصة بنا. اكتشف أفكارًا جديدة وشارك في محادثات هادفة

عاد الأمير هارُون على رأس الجيش العبَّاسي المُنتصر، ومعهُ رسولٌ من الإمبراطُورة حاملًا الجزية من الذَّهب إلى العاصمة بغداد، في أبَّهةٍ عظيمة واستقبال الأهالي لجنودهم والمُتطوعين في يوم السَّبت، السَّابِع عشر من محَرَّم 166 هـ / الرَّابِع من سبتمبر 782 م، وفي ذلك، يقول الشَّاعر مروان بن أبي حفصة الأُمويُّ:
أطفت بقسطنطنِيَّة الرُّوم مسندًا
إليها القنا حتى اكتسى الذُّل سُورها
وما رمتها حتى أتتك مُلوكها
بجزيتها والحربُ تغلي قُدُورها
وفي هذا اليوم رفع الخليفة المهدي من مكانة هارُون، ورأى فيه أهليَّته للحكم مُستقبلًا، وقرر على إثر ذلك أخذ البيعة لهُ من بعد أخيه مُوسى الهادي، كما أطلق عليه لقب «الرَّشيد» لِما رأى منه بأسه، وذكاءه، ورُشده، وهو اللَّقب الذي عُرف به ولازمه من الآن فصاعدًا. كانت أيام ما بعد عودة الجيش قد شهدت رخصًا كبيرًا في المعيشة نتيجة الغنائم، فقد بلغ سعر بيع البرذون بدرهم، والدرع بأقل من درهم، و20 سيفًا بدرهمٍ واحد فقط. استمرَّت الهُدنة قرابة ثلاثة أعوام حتى نقضها الرُّوم في شهر رمضان سنة 168 هـ / أبريل 785 م ولم يجددوا الهدنة، فبعث نائبُ الجزيرة حملةً تأديبيَّة فقتلوا وأسروا وغنموا، وعادت الحُروب والغارَات بين الطرفين لسابق عهدها.

وصلت أنباء الهُجوم الإسلامي لمسامع الإمبراطُورة إيرين الأثينيَّة أرملة أليُون الرَّابع، وخشيت من عواقب زحف جيش المُسلمين نحو عاصمة الإمبراطوريَّة، فأرسلت الرُّسُل والسُّفراء فورًا طلبًا للصلح وإعطاء الفدية إلى الأمير هارُون، فقبل منها على شرط أن تُقيم لهُ الأدلَّاء والأسواق في طريقه لتأمين قوت الجيش، وأن تُوفي بالعهد والذمَّة، حيث أن الجيش قد دخل مدخلًا صعبًا وخشي الأمير عليهم، فأجابتهُ إلى ما سأل، ودفعت لهُ 70 ألف دينارٍ، وقيل بل 90 ألفًا، تُؤديها في الأوَّل من نيسان وحَزِيران، فقبل الأمير هارُون، وأقامت الأسواق في طريقه بناءً على طلبه، كما وجهت معه رسولًا إلى الخليفة المهدي بما بذلت، على أن تُؤدي ما تيسَّر من الذَّهب والفضَّة والعرض، وأطلقت سراح الأَسرى من المُسلمين الذين أُسروا في غارَاتٍ سابقة، وكانت الهدنة مدتها ثلاث سنين. وكانت هذه الحملة هي آخر حملةٍ عسكريَّة قادها العرب نحو القسطنطينيَّة، ثلاث حملاتٍ قام بها أوَّل خُلفاء بني أميَّة، معاوية بن أبي سُفيان (34 و48 و54 هـ / 665 و668 و674 م)، والرَّابعة في عهد سُليمان بن عبد الملك (98 هـ / 716 م)، والأخيرة في عهد مُحمَّد المهدي (165 هـ / 782 م).

الحملة الهارُونيَّة على أبواب القسطنطنيَّة
بعد نجاح حملته الأولى، وتوليته واليًا، وزواجه من ابنة عمه زُبيدة بنت جعفر، قرَّر الخليفة المهدي إرسال الأمير هارُون في حملةٍ جِهادية كبيرة نحو الثُّغور الرُّوميَّة، فانطلق هارُون يوم السَّبت، التَّاسع عشر من جُمادى الآخرة 165 هـ / السَّابع من فبراير 782 م، وذلك على رأس جيشٍ كبير وصل تعدادُه ما يزيد عن 95 ألفًا، وأرسل معهُ الرَّبيع الحاجب، ويزيد بن مزيد الشَّيبانِي، وأمدَّهُ بـ 193 ألف دينارٍ وغيره من الفضَّة والدراهم لنفقة الجيش.
توغَّل الأمير هارُون في بلاد الرُّوم، فبدأ بافتتاح حِصن ماجدة، حيث تبارز القائد يزيد الشَّيباني مع قائد الحصن ويُدعى نقيط، فتبارزا حتى سقط نقيطُ من إحدى الحركات، وبادرهُ الشَّيباني بضربةٍ أردته قتيلًا، فانهارت معنويات الحامية الرُّوميَّة في الحصن واستسلمت. ثم سار الشَّيباني على رأس كتائب لمُلاقاة الدُّمُستُق البيزنطي في نقمُودية، بينما أكمل الأمير هارُون وجيشُه الكبير زحفهُم في أرض الرُّوم، مُكبدًا لهم خسائر باهظة، فوصل عدد قتلى الرُّوم في المعارك نحوًا من 54 ألفًا، كما سَبَوْا ما يُقارب 5 آلاف، واستمر الجيشُ في مسيره وتوغُّلاته العميقة حتى بلغ خليج القسطنطينيَّة وهدَّد عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة..............

وبعد 38 يومًا، رفع أهل سمالوا راية الأمان والاستسلام، على شرط أن لا يُقتَّلوا ولا يُهجَّروا، فوافق هارُون، ففتحها وأمَّنهُم، ووفى لهُم بما شرطُوا، كما فتح عددًا من الحُصون، وغنم أموالًا جزيلة عائدًا بالجيش والأعلام السَّوداء تُرفرف مع الغنائم إلى العاصمة بغداد، فاستقبلهُم الأهالي فرحين، وكافأهُ الخليفة المهدي بتوليته واليًا على بِلاد المغرب، وأذربيجان، وأرمينية، وجعل كاتبهُ على الخراج ثابت بن مُوسى، وعلى رسائله يحيى البرمكي.

بعد أن انتهى الخليفة المهدي من أمر الزَّنادقة في تلك الأنحاء، انطلق مع جيشه حتى وصل إلى مدينة جيحان، ثم شيَّع هارُون وأمَّرهُ على رأس الجيش للتوجُّه نحو أراضي الرُّوم، ووكَّل عددًا من القادة والأُمراء من أمثال عبد الملك بن صالح، وعيسى بن مُوسى، والمُخضرم الحسن بن قحطبة، وخالد البرمكي وابنه يحيى بمرافقته، فسار الجيش حتى نزل على حصن سمالوا، فحاصرها الجيش ونصَّب المجانيق.

الحملة الهارُونيَّة على الثُّغور الرُّوميَّة
بعد أن رأى الخليفة المهدي أن هارُون قد اشتد عودُه، ولهُ من الهمة ما يُمكنه من اختباره على أرض الواقع، تجهَّز المهدي لغزو الرُّوم، فجمع الجيش العبَّاسي من أنحاء خُراسان وغيرها، كما استخلف وليَّ عهده الهادي على العاصمة بغداد نيابةً عنه في غيابه، واستصحب معهُ هارُون نحو أرض الثُّغور، مُنطلقًا في جُمادى الآخرة 162 هـ / مارس 779 م، واجتاز طريقه عبر الفُرات، إلا أن المهدي حينما توقَّف في حلب للاستراحة، وصلت لهُ معلومات بوجود زنادقة في تلك الأنحاء، فجمع من بها من تلك النَّاحية منهم، وقتلهُم، وقطَّع كتبهم بالسَّكاكين.

بيعة مُوسى الهادي لولاية العهد
عاصر هارُون أحداثًا كثيرة في عهد أبيه، فقد استفحل خطر الزَّنادقة، وثار المُقنَّع في خُراسان، وبرزت أعدادٌ من التحدِّيَات والاضْطِرابات في بعض أنحاء البِلاد. ولكن المهدي، كان يُواجه تهديدًا داخليًا لتوريث الحكم من بعده، فالأمير عيسى بن مُوسى العبَّاسي كان وليًا للعهد من بعده، وكان المهدي يطمح لأخذ البيعة لابنه مُوسى، وبعد ضُغوطٍ كثيرة وصلت إلى الضَّرب من بعض المُتعصبين لخلعه من ولاية العهد على الرَّغم من استنكار المهدي، آثر عيسى التنازل عن ولاية العهد، وخلع نفسه في السَّادس والعِشرين من مُحرَّم 160 هـ / السَّادس عشر من نوفمبر 776 م، وبايع المهدي لابنه مُوسى ولقَّبهُ بالهادي. وفي الفترة الزمنية نفسها من الحدث، أمر المهدي بجعل أبان بن صدقة كاتبًا لهارُون، ووزيرًا له، كي يعينه على شؤونه. إلا أن المَهْدِي بعد سنة، أمر ابن صدقة بأن يُستوزر لوليِّ عهده مُوسى الهادي، ووكَّل يِحيى البرمكي بأن يكون الكاتب الخاص لهارُون، والذي كان الأخير يدعُوه «أبتي» لاحترامه وكبر سنه، ولكون أولادِه هم إخوة هارُون من الرَّضاعة، الأمر الذي قدم لآل برمك مزيدًا من النُّفوذ وأعطى يحيى دافعًا أكثر للاهتمام به، ودرَّبهُ في الكثير من شُؤون الحنكة السياسية والتنظيمات الإدارية حينها.

حين أصبح الأمير هارُون في مراحل البُلوغ، وكان شابًا يافعًا ومُتعلمًا، تُوفي جدُّهُ المنصُورفي طريقه للحج على أبواب مكَّة في السَّادس من ذي الحجَّة 158 هـ / السَّادس من أكتوبر 775 م، وكان عُمر هارُون قُرابة الثَّانية عشرة من عُمره. بُويع أبوه المهدي للخِلافة بناءً على وصيَّة المنصُور. وبعد سنةٍ من حُكمه، أعتق الخيزُران أم ولده وتزوَّجها رسميًا.

تعليمه
بدأ الأمير هارُون تلقيه للعلم منذ أن كان في الخامسة من عُمره، لتنتهي في الخامسة عشرة من عُمره، كما تجري العادة في تربية صغار الأمراء. تعلَّم هارُون الفتى اللُّغة العربيَّة والنَّحو والشعر والأدب وتاريخ العرب من مُعلميه أبُو الحسن الكسائيُّ، والمُفضَّل الضَّبي. سمع الحديث من أبيه المهدي وحفظ الكثير من الشعر، والحكم، والخُطب، وأيَّام العرب والإسلام. زار هارُون مجلس إمام اللُّغة في زمانه، الخليل بن أحمد الفراهيدي في البصرة، بهدف زيادة معرفته بالنَّحو والشعر، كما أخبره الأصْمعي عن طرائف العرب ومِلَحهم، وهذا ما يُفسِّر مناقشاته للعُلماء والأدباء ونقده للشعر والشُّعراء في أيام خلافته، فقد حاز على سعة من العلم والثقافة واللَّباقة. ولم يتوقف تعليمه على الكُتُب والسماع فحسب، بل كان للتدريب العسكري شأنٌ آخر لهارُون الفتى النَّاشئ، فبعد تولي والدهِ للخلافة، تدرَّب هارُون على الفُروسيَّة، والرَّمي، والطَّعن، وفنون القتال.

طفولته
عاش هارُون، الابن الثَّاني للخيزُران بعد أخيه موسى بعد ولادته في قصر والده بالرَّي، فقد كان يحميها خندق، وسورٌ سميك، ويسقيها نهران بمياهٍ وفيرة. وبعد أن أصبح هارُون في الثَّالثة أو الرَّابعة من عُمره، عاد المهدي إلى العاصمة العبَّاسيَّة بغداد، وسكن في القصر الذي بناه على شاطئ دجلة، فقد كانت زوجات رجال أهل الحل والعقد يتنافسن بعد ولادته على شرف إرضاعه. ولِما كان لعائلة يِحيى البرمكي من روابط وثيقة تجمعهم بأسرة الخلافة، فقد دفعت الخيزُران بطفلها هارُون إلى زينب بنت مُنير، زوجة يحيى البرمكي كي ترضعه، فأرضعتهُ بلبان الفضل، وقد أرضعت الخيزران الفضل وأخاه جعفرًا بلبان هارُون، الأمر الذي ارتبط في حياة هارُون مُستقبلًا بهما، لكونهما إخوةً بالرضاعة ومن الجيل نفسه.